عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا, فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء, وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء, حتى تعود القلوب على قلبين؛ قلب أسود مربادًا كالكوز مجخيًا, لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا, إلا ما أشرب من هواه, وقلب أبيض فلا تضره فتنة ما دامت الأرض والسماوات " أخرجه مسلم
والحديث يصف لنا البداية, البداية التي بها ينتمي القلب إلى أحد قسمين: إما المرض وإما السلامة, فإن الله سبحانه قد شاء أن تعرض الفتن على القلوب بشكل مستمر متتالٍ لا يتوقف, بل إنها تزداد يومًا بعد يوم حتى يكون بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم - كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم - ونحن نرى كيف تموج بالمؤمنين الفتن ليلاً ونهارًا, سرًا وجهارًا, فإما فتنة شبهة تبعد الإنسان عن الإيمان بربه وتوحيده له والتسليم لشرعه واتباع نبيه فيقع في المحظور، وإما شهوة تبعد الإنسان عن أوامر ربه ونواهيه فيقع في الحرام.., وبين الشهوات والشبهات تموج الفتن.
والقلوب في مهاب رياح الفتن تقبلها أو تردها, فأيما قلب قبل الفتنة وتشربها وامتص آثارها تركت فيه أثرًا: نكتًا سودًا وعلامات سوداء, وتزداد هذه العلامات وهذا النكت بازدياد قبوله بالفتن ووقوعه فيها وتشربه لها...
فتغطي القلب تلك السوادات والآثار المظلمة فيصير كأنه مطليٌّ بسواد في سواد, وباستمرار الفتن وعدم رده لها يصير طلاءُ فوق طلاء, حتى تتكون على القلب طبقة من آثار الفتن تغطيه فتضعف قوته ويتآكل معها الحق الذي فيه...
وتظل الفتن تعرض عليه ويظل يقبلها حتى يغلف القلب في مراحله الأخيرة بغلاف من آثار ما كسب يمنعه من قبول الخير والهدى, يقول تعالى: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].
وأيما قلب رد الفتنة واحتمى بحمى الإيمان واستعاذ بالله من شيطانه ومن هوى نفسه وخاف مقام ربه وأراد رضاه ونهى النفس عن الهوى... صار في قلبه قوة على رد الفتنة.
وكلما نجح في رد فتنة زادت قوته وقويت إرادته في رد الفتنة التي تليها, ويظل يرد الفتن راجيًا ما عند الله حتى تصير قوته على رد الفتن قوة ذاتية فيه وطبيعية له فلا يضره شيء ما دامت الأرض والسماوات.
وهذا الحديث حديث عظيم البيان واضح المعاني... من اهتدى إلى ما فيه من نور الوحي فقد هداه الله إلى خير كثير فصلى الله وسلم على محمد طبيب القلوب.
إن الوظيفة الأولى للأئمة والعلماء والدعاة إذن هي إصلاح القلوب عن طريق توحيدها بربها, إصلاح قلوبهم ومن ثم إصلاحهم لقلوب الناس أو إعانة الناس على إصلاح قلوبهم.
فيبثوا في الأمة روحًا جديدة من الإيمان بالله سبحانه, ويجددون صلة القلوب بالله, والأجسام بالأرواح والمجتمع بالأخلاق, والعلم بالربانية. ويتركون زينة الدنيا وزخرفها.
فيستطيع أحدهم أن يفعل كما فعل سلطان العلماء العز بن عبد السلام - رحمه الله - وقد طُلب منه أن يُقَبل يد ملك بلاده ليرضي عنه فقال: "يا مسكين والله ما أرضاه أن يقبِّل يدي فضلاً عن أن أقبل يده, يا قوم أنتم في واد وأنا في واد".
وكما قال آخر.. وقد عرض عليه ملكُ بلاده أن يقبل شيئًا مما آتاه: "إن الله يصف هذه الدنيا بطولها وعرضها بالقلة والخسة فقال: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77].
ويمد أحدهم – وهو الشيخ سعيد حلبي عالم دمشق - رجله إلى أمير جبار, ويرسل إليه هذا الأمير صرة من الذهب فيرفضها قائلاً: "إن من مد رجله لا يمد يده".
وهذا هو شيخ الإسلام رحمه الله يستحقر المُلك فقد قال له الملك الناصر ذات مرة: سمعت بأن الناس أطاعوك وأنت تفكر في الحصول على الملك! فرد عليه الشيخ قائلاً بصوت عال سمعه الناس الحاضرون كلهم: "أنا أفعل ذلك؟ والله إن ملكك وملك المغول لا يساوي عندي فلسًا".
فلا شك أن هؤلاء وأمثالهم - أصحاب النفوس المزكاة - الذين طهروا قلوبهم وتعلقوا بالله وأعرضوا عن متاع الحياة هم الذين يعينون الناس أمام طغيان المادة العاتية وبدونهم ينهار المجتمع روحيًا وتضعف الصلة بالله ويفقد الناس الطبيب.
وهنا ملحوظة مهمة: وهي أن بعض الدعاة إلى الله وطلبة العلم يظنون أن غاية الابتلاء والامتحان هو الأذى الجسدي: من سجن وتعذيب وأسر وغيرها, أو أذى معنوي من مقاطعة الناس أو عدم استجابة أو سخرية أو استهزاء وهذا لا شك قصر لمفهوم الابتلاء, وإلا فإن أشد أنواع الابتلاء هو ابتلاء القلب وامتحانه.
وكم رأينا ممن نجح في امتحان الأذى والتعذيب, لكنهم أخفقوا في امتحان القلب, ولذلك كان من دعاء الراسخين في العلم:
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}.