حق الله على العباد، وحق العباد على الله
عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنه قال: (كنت
رديف النبي - صلى الله عليه وسلم- على حمار، فقال لي: (يا معاذ، أتدري ما
حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟) فقلت: الله ورسوله أعلم،
قال: (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاًَ، وحق العباد على
الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً) فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشّر
الناس؟ قال: (لا تبشروهم فيتّكلوا) متفق عليه
* * *
أهمية الحديث:
ينبغي على كل مسلم أن
يقف عند هذا الحديث متدبراً ومتأملاً؛ لما يحويه من مسائل عظيمة، وفوائد
نفيسة، كيف لا وهو يبحث في مهمة الإنسان في هذه الحياة، ويقرر أصلاً في
غاية الأهمية والخطورة؛ إذ إنّ خدش هذا الأصل قد يغير مسار حياة الفرد في
الدنيا والآخرة، وسأعرض ذلك في خمس فوائد:
الوقفة الأولى: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (أتدري ما حق الله على العباد..).
قوله: (أتدري) الدراية
هي المعرفة والعلم، وأخرج الخبر بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس،
وأبلغَ في فهم المتعلم، وأدعى للحفظ والانتباه، وأوعى للفهم، وهذا أسلوب
من أساليب تربية النبي - صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، وإرشاده لهم،
وتعليمه إياهم، وهو مما يجب أن تهتم به التربية المعاصرة.
الوقفة الثانية:جوابه - صلى الله عليه وسلم- بقوله: (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً).
وهذا النص عظيم القدر، كبير المعنى، مليء بالفوائد والحكم، حيث اشتمل على ثلاث مهمات.
الأولى: قوله: (حق الله على العباد)، والمقصود بذلك ما يستحقه عليهم، ويجعله متحتماً، فهي هنا بمعنى الواجب، فكأنه قال: ما يجب على العباد لله - سبحانه وتعالى-.
وكلمة "الحق" تأتي لمعان كثيرة، منها الجزاء، والصدق، وتطلق على الله - سبحانه وتعالى- إلى غير ذلك من المعاني.
الثانية: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (أن لا يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً..).
والمعنى: أن يوحدوه بالعبادة وحده، ولا يشركوا به شيئاً، وفائدة هذه الجملة بيان أن التجرد من الشرك لا بد منه في العبادة.
والعبادة في الأصل: الخضوع والتذلل، يقال: طريق معبّد, وبعير معبّد، أي: مذلَّل.
والعبادة المأمور بها
هي كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: (طاعة الله امتثالا لما
أمر به على ألسنة الرسل)، أو كما قال أيضاً - رحمه الله-: (هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة).
ويقول – رحمه الله-: (لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له).
فهي بهذا المعنى تشمل
جميع شؤون الحياة، ما يقوله الإنسان وما يعمله إذا كان لله - سبحانه
وتعالى-، فهي تشمل الشعائر التعبدية كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج،
والذكر، والدعاء، والاستغفار، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،وغيرها،
كما تشمل شؤون الحياة الأخرى المباحة كالأكل، والشرب، والمعاملات،
والنكاح، وغير ذلك.
يقول العلامة شيخ
الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: (فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق
الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود،
والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان
للجار، واليتيم، والمسكين، وابن السبيل، والملوك من الآدميين والبهائم،
والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة)، (وكذلك حب الله
ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه،
والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من
عذابه، وأمثال ذلك من العبادة لله). اهـ.
من هذا نفهم أن كل ما
يعمله الإنسان في هذه الحياة من الأعمال المباحة المشروعة إذا كان القصد
فيها صالحاً فهو عبادة، حتى ما يقضيه الإنسان في شهوته، ولذاته، ومعاشه
اليومي، وأوضح شاهد على ذلك ما رواه الإمام مسلم وغيره أن النبي - صلى
الله عليه وسلم- قال: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: أيأتي أحدنا شهوته
ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا
نعم، قال: كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر).
قال بعض أهل العلم: وهذا من تمام رحمة الله على عباده، يثيبهم على ما فيه قضاء شهواتهم إذا نووا أداء حق الزوجة، وإحصان الفرج.