عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( قال سليمان بن داود
عليهما السلام : لأطوفنّ الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين ، كلهنّ
يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، فقال له صاحبه : قل إن شاء الله ، فلم يقل
إن شاء الله ، فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشقّ رجل ، والذي نفس
محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون ) متفق عليه .
وجاء في روايات أخرى : ( ولم تحمل شيئا إلا واحدا ساقطا أحد شقيه ) ، ( ولم تلد منهن إلا امرأة نصف إنسان )
معاني المفردات
لأطوفنّ الليلة : الطواف بالشيء هو الدوران حوله ، والمقصود هنا هو المبيت مع جميع نسائه.
ساقطا أحد شقيه : أي غير مكتمل الخلقة.
تفاصيل القصّة
سليمان
عليه السلام نبيٌّ مرسل ، ومَلِك صالح ، مكّن الله سبحانه وتعالى له في
الأرض ، ووهب له سلطاناً وطيد الدعائم راسخ الأركان ، وقد زاد على ملوك
الأرض فسخّر الله له من عوالم الجنّ والطير والريح وغيرها من العوالم التي
لم تُسخّر لأحد من قبله ولا من بعده .
وكلّ
هذه العظمة في الملك والأبّهة في السلطان ، لم تكن مجرّد متعةٍ دنيوية أو
رغبة شخصيّة ، بل كانت لهدفٍ سامٍ وغايةٍ نبيلة ، يتمكّن بها من إنفاذ
أحكام الله وإعلاء كلمته ، والجهاد في سبيله ، ونشر الحق في ربوع الأرض .
وما
القصّة التي بين أيدينا إلا إشارة واضحةٌ إلى الروح المتشوّقة للجهاد التي
كان يمتكلها هذا النبي الكريم ، والمقصد الأعظم الذي كان يهدف إليه من
وراء طلب الملك ، كما قال الشاعر :
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
والحاصل أن سليمان
عليه السلام أقسم في يوم من الأيام ، أن يمرّ على مائة من نسائه في ليلة
واحدة ، لكي تحمل كل واحدة منهنّ وتأتي بولد ، ويقوم بتربيتهم على معاني
الرجولة والفتوّة ، فيصبحوا فرساناً يقاتلون في سبيل الله .
وبينما هو يحدّث نفسه بما عزم عليه ، وصلت كلماته إلى أحد المقرّبين إليه ، فنبّهه على أن يقول : "إن شاء الله " ، ويبدو أن سليمان عليه السلام نسي أن يقولها في غمرة انشغاله بأموره وأحوال مملكته .
وتدور
عجلة الأيام ، ويشاء الله عز وجل ألا تحمل أي امرأة من نسائه سوى واحدة ،
ولدت له – بعد طول انتظار منه – بسقطٍ غير مكتمل الخلقة .
وتختم هذه القصة العظيمة بقسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – معلّقاً على هذه الحادثة ، أنه لو قُدّر لسليمان عليه السلام أن يقول تلك الكلمات ، لتحقّق له مراده ، ولقرّت عينه برؤية ذرّيته في صفوف الجهاد .
وقفات مع القصّة
حوت
هذه القصّة من الفوائد المبثوثة، والعبر المنثورة، ما يستدعي الوقوف عندها
، وتسليط الضوء عليها ، وأوّل الدروس التي نتعلّمها هنا هي ضرورة تفويض
الأمور إلى الله تعالى تفويضاً قلبيّاً يتبعه اللسان ويصدّقه ، والقرآن
الكريم يوجّه النظر إلى ذلك كما في قوله تعالى : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله } ( الكهف : 23 – 24 ) .
ومواقف النبي – صلى الله عليه وسلم – خلال حياته تربّي الصحابة على هذه القضية ، ونلمسها في قوله : ( لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها ) رواه النسائي في السنن الكبرى ، وقوله : ( والله لأغزون قريشا إن شاء الله ) رواه الترمذي ، وقوله عن المدينة : ( لا يدخلها الطاعون ولا الدجال إن شاء الله ) رواه الترمذي ، وقوله عند حصار الطائف : ( إنا قافلون غدا إن شاء الله ) رواه البخاري ، وقوله في غزوة تبوك : ( إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك ) رواه مسلم .
أما
الدرس الثاني الذي نتعلّمه فهو سمو المقصد في حال الرغبة في إنجاب الذرّية
، فالصالحون يريدون لأولادهم أن يكونوا قادة وعلماء ، ومجاهدين ودعاة ،
ليخدموا هذا الدين ، وينشروا تعاليمه ، ويعملوا بمقتضاه .
ونتعلّم
من القصّة أيضاً أن الإنسان قد يبذل جميع الأسباب لتحقيق مراده ، ومع ذلك
تتخلّف النتائج ويجري القدر على خلاف مقصوده ، وذلك محض تقديرٍ من الحكيم
العليم ، والإنسان لا يدري موضع مصلحته .
وفي سياق القصّة إشارةٌ إلى معجزة من معجزات نبي الله سليمان عليه السلام ، وهي قدرته على إتيان ذلك العدد الكبير من نسائه في ليلة واحدة مع اشتغاله بالعبادة والحكم ، وهو أمرٌ خارقًٌ للعادة .
كما
تشير القصّة إلى مسألة مهمّة تتعلق بقضايا المرأة ، وهي أن التعددّ في
الزواج كان مشروعاً في الكتب السماوية ومعمولاً به عند الأمم السابقة ولم
تختصّ بها شريعة الإسلام ، فسليمان عليه السلام بمقتضى النصّ كان له مائة امرأة ، وقد جاء التصريح بذلك في رواية أخرى عند البخاري وهي قوله عليه السلام : ( لأطوفن الليلة على نسائي ) .
وهناك
فوائد أخرى – غير ما تقدّم - يمكن أن تُستنبط من الحديث ، من ذلك أن إتباع
اليمين بقول : إن شاء الله يسقط الكفارة عند عدم فعل ما تمّ الحلف عليه ،
كما قال – صلى الله عليه وسلم - : ( من حلف على يمين فقال : إن شاء الله ، فهو بالخيار ، إن شاء أمضى ، وإن شاء ترك ) رواه النسائي
، ومن ذلك جواز الاستثناء بعد اليمين – وهو أن يقول بعد يمينه : إن شاء
الله - إن كان الفاصل بينهما قصيراً ، وفي الحديث أن الاستثناء لا يكون إلا
باللفظ ولا يُكتفى فيه بالنّية ، وفيه أيضاً بيان أدب الأنبياء في التعبير
عن الأمور المستقبحة كما في قول سليمان عليه السلام : ( لأطوفنّ )
للتعبير عن إتيان النساء ، بالإضافة إلى جملة أخرى من الفوائد الفقهيّة
التي بسطها العلماء في كتبهم ، ولا مجال للتوسّع في ذكرها هنا .